Monday, March 9, 2009

قواعد التعامل بالغيب

ادعى بعض الناس بأنه مطلع على الغيب ومعاين الجن كما يعاين البشر خاصة من الذين يشتغلون بالتداوي بالآيات القرآنية والأذكار المعينة لإخراج الجن على زعمهم من جسم الإنسان المصروع. وبعض الذين ادعوا هذا الأمر بالغ فيه فوصف للعوام أو الذين اعتقدوا صحة دعواهم شكل الجن الذي عاينه وحجمه ولغته وديانته وحتى مركزه الاجتماعي في المجتمع الجني بل بالغ بعضهم فحكى للناس أنه نجح في دعوته للجن المتلبس في جسم المصروع إلى الإسلام فنطق أمامه الشهادتين فأسلم بإسلام ذلك الجني قومه من الجن إن كان ذلك الجني من المرموقين مثلا أو له مكانة خاصة عند قومه شأن البشر تماما عند قومه. وبعضهم استعمل أشياء معينة كالملح والفلفل الأسود والثوم مثلا في عملية طرد الجن وبناء الحصن الغيبي على زعمهم لبيت أحد من الناس أو شقته أو عمارته إذا طلب منه ذلك.
هذا شيء يسير من مجموعة القصص التي تناقلها الناس قديما وحديثا من أعاجيب المشتغلين بالتداوي بالرقى. والسؤال الذي ينبغي أن يطرح في هذه القضية هو: هل هذه الأشياء المتداولة في حديث الناس صحيحة يجب أن تصدق؟ وهل يمكن الاعتماد عليها كحجة في الاعتقاد أو العمل شأن سائر الأدلة المعتمدة في الشرع كالقرآن والسنة والإجماع والقياس مثلا؟ وهل هناك سند صريح معتمد يمكن أن تنبني عليه هذه الأعاجيب أو تدعم به؟ للإجابة على الاستفسارات السابقة تعالوا معي لنطلع على الموضوعات التالية:
بين عالم الغيب والشهادة:
خلق الله عالمي الغيب والشهادة لأسباب وحكم نعلم بعضها ومازلنا نجهل معظمها وذكر ذلك في محكم تنزيله وقرر ذلك أيضا السنة النبوية في أحاديث كثيرة لا ينكرها إلا المتعالي على الشريعة. فمن وجوه الحكم التي خلق الله لأجلها عالم الشهادة:-
1- الامتنان بعباده, قال تعالى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) [إبراهيم]
وقال تعالى:
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) [النحل].
2- الشكرلله قال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) [النحل].
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) [الأعراف]
... وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) [الأنفال]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) [النحل]
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) [الروم]
3- التفكر الموصل إلى الإيمان وزيادة الإيمان, قال تعالى:
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) [النحل]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164 [البقرة]
4- فالله سبحانه جعل العالم المشاهد لنحعله دليلا على وجوده وقدرته وإرادته وهو جل جلاله غير مدرك بأصارنا وهو يدرك الأبصار ولكن تلك الأدلة التي تدل وجوده وآثاره هي أصرحها وأوضحها وأجلاها لا ينكرها إلا متكابر. (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) [النمل/14]
ومن وجوه الحكم التي من أجلها خلق الله عالم الغيب:-
1- الإيمان بما جاء به القرآن الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ والإيمان بالقرآن من أصول الدين وإنكاره إنكار أمر معلوم من الدين بالضرورة لأنه مصدر الشريعة وقد ورد في القرآن أمور تتعلق بالغيب منها عالم البرزخ الذي هو محطة الانتظار للوصول إلى الأخرة, قال تعالى:
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) [غافر]
ومنها الملائكة الذين لا يعرفون السآمة في فعل الطاعات, قال تعالى:
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) [النحل]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم/6]
ومن الملائكة من أمر بإنزال الوحي على الأنبياء والرسل وهو جبريل عليه السلام قال تعالى:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) [النجم]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء]
والملاحظ في أركان الإيمان الست وجد أن بعضها من الأمور الغيبيات ومن هنا نعلم أن من الغيب ما هو أساس الإيمان والإسلام. ولذلك مدح الله المتقين في القرآن وجعل من صفاتهم وخصائصهم الإيمان بالغيب, قال تعالى:
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [البقرة].
2- التوازن في الدين والحياة. أما التوازن في الدين فلأن الإسلام جمع بين المادة والروح وبين المشاهد والغائب وبين الدنيا والآخرة فلا يغلو في حانب ويهتم به على حساب الآخر ولهذا يكون الإسلام بين إفراط النصارى وتفريط اليهود وقد تغالى الصنفان في أحد جانبي المادة والروح فهلكتا. أما النصارى فقد وصفهم الله بالغلو في العبادة حتى يملوا منها ولم يؤدوها حق الأداء. قال تعالى:
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) [الحديد].
ولهذا وجدنا من النصائح التي وجهها الله لهم عدم الغلو في الدين قال تعالى:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) [النساء]
وقد أطرت النصارى في حق عيسى عليه السلام فجعلوه إلها قال النبي صلى الله عليه وسلم:
لا تطروني كما أطرت النصارى بن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله
أما اليهود فبسبب عقليتهم المادية طالبوا موسى عليه السلام برؤية الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم, قال تعالى:
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) [النساء].
أما التوازن في الحياة فلأن الحياة الدنيا لا قيمة لها إلا إذا كان من ورائها حياة أخرى يجزى فيها كل إنسان بما عملت يداه فالدنيا دار الابتلاء والآخرة دار الجزاء وأنها لهي الحيوان وما دام كون الأخرة مجهولة التفاصيل - وكان الإيمان بها ركن من أركان الإيمان – كانت غيبا عنا. ثم إن للغيب دور آخر لضمان توازن حياة الإنسان لا بد منه ألا وهو دور المراقبة. فالإنسان المؤمن دائما يشعر بمراقبة ربه له وهو لا يراه فشعوره ذلك جعله دائم التواصل بربه بالطاعات. ثم إن الله قد أخبرنا بأن كل قول لفظنا إلا وكتبه الملك الموكل لذلك وإن لم نره, قال تعالى:
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) [ق]
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) [الإنفطار]
وبين الله أن من الملائكة من هو موكل لحراسة الإنسان من المخاطر, قال تعالى:
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.. [الرعد/11]
منهم حملة العرش الذين يدعون ويستغفرون لمن في الأرض من الذين آمنوا واتبعوا سبيل الحق قال تعالى:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) [غافر].
وقد علمنا من خلال النصوص القرآنية والحديثية أن عدد الملائكة والجن يزيد على عدد البشر أضعافا مضاعفة وإننا لنشعر في بعض الأحيان بالضيق والزحام بكثرة عدد سكان الأرص من البشر في وقت ما أو مكان ما وكثيرا ما يحدث التشاجر والتقاتل والاحتواء على حقوق الآخر بسبب التزاحم والتضايق فكيف إذا كانوا – أعني الملائكة والجنة – يتشكلون في أجسام مادية مثلنا ساكنين بين أظهرنا, إلام يكون مصيرنا؟ ولقد توقعنا نتيجة ذلك إن كان حادثا.
3- مراعاة فطرة الإنسان. وقد لاحظنا مما سبق بيانها من جمع الإسلام بين المادة والروح وبين الغيب والشهادة وتكامل الحياة في جانبيه المشهود والغائب أن ذلك كله مراعاة لفطرة الإنسان المتكون من العنصرين الاثنين المادي وهو الجسد والغيبي وهو الروح. ولو ترك الإنسان يتمادى في ماديته ولم يراع جانبه الروحي لذهب منه السكينة والوقار والطمأنينة وقد رأينا كثيرا من المنتحرين من الناس فإنهم لا ينتحرون لأنهم مهملون ماديا بل هم في أوج الحياة المادية وأرقاها ولكنهم ينتحرون لأنهم ضائقو الأنفس تائهو الضمائر فاقدو الأمن والطمانينة. وكذاك لو ترك الإنسان يتوغل في روحانيته وتهذيب نفسه بدون أن ينظر إلى جانبه الجسدي بعين الانتباه ويتعامل بالغيب كأنه ليس له قواعد دينية يرجع إليها في دقيق الأمر و جليلها و عقل يتأمل في كل قضية تخصصه بلا انحياز ولا تعصب فإنه بذلك سيلقي نفسه إلى الهلاك وسيقال له في النهاية مجنون يتكلم وحده والناس منشغلون عنه ولا يلتفتون إليه بكل تقدير واحترام. فماذا إذن يبقى للإنسان إذا نفي عنه عقله الذي به يتميز عن سائر الحيوانات.
وهناك جانب آخر يتميز به الإنسان عن غيره من المخلوقات وهو جانب عاطفي أو وجداني به يشعر الإنسان بالمحبة والبغضاء والأنس والغربة والخوف والرجاء خوف مما يضره وحب ورجاء لما ينفعه. وكثيرا ما يتاثر الإنسان بالصورة الظاهرة فنينفعل به إحساسه الداخلي. لذلك وجدنا أنفسنا تخاف أشكال قبيحة وتحاول الابتعاد عنها إن أمكننا ذلك و على العكس من ذلك تماما تأنس وتسر بأشكال جميلة وتحاول الاقتراب منه والانضمام إليه. وقد حجب الله أبصارنا عن رؤية الأشياء التي لا تطيقه ولا تتحمله من أمور غيبية رحمة لنا وإرفاقا بنا وكان نبي الله موسى عليه السلام أراد رؤية الباري جل جلاله وكانت قصته كما حكى لنا القرآن الكريم قال تعالى:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) [الأعراف].
وأترك لكم هذه الأية تتحدث بأذهاننا بدون أي تعليق مني عسى أن نستنبط منها شيئا تمس بموضوعنا هذا.....تابع معنا في الحلقة القادمة.

No comments:

Post a Comment